فصل: تفسير الآيات (1- 9):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.سورة نوح:

.تفسير الآيات (1- 28):

{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)}
{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً} قيل: معناه بالسريانية الساكن {إلى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ} خوّف أصله بأن أنذر فحذف الجار وأوصل الفعل. ومحله عند الخليل جر، وعند غيره نصب، أو (أن) مفسرة بمعنى (أي) لأن في الإرسال معنى القول: {قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} عذاب الآخرة أو الطوفان {قَالَ ياقوم} أضافهم إلى نفسه إظهاراً للشفقة {إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ} مخوف {مُّبِينٌ} أبين لكم رسالة الله بلغة تعرفونها {أَنِ اعبدوا الله} وحدوه و(أن) هذه نحو {أَنْ أَنذِرِ} في الوجهين {واتقوه} واحذروا عصيانه {وَأَطِيعُونِ} فيما آمركم به وأنهاكم عنه، وإنما اضافه إلى نفسه لأن الطاعة قد تكون لغير الله تعالى بخلاف العبادة {يَغْفِرْ لَكُمْ} جواب الأمر {مّن ذُنُوبِكُمْ} للبيان كقوله: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30]. أو للتبعيض لأن ما يكون بينه وبين الخلق يؤاخذ به بعد الإسلام كالقصاص وغيره كذا في شرح التأويلات. {وَيُؤَخّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} وهو وقت موتكم {إِنَّ أَجَلَ الله} أي الموت {إِذَا جَاء لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي لو كنتم تعلمون ما يحل بكم من الندامة عند انقضاء أجلكم لآمنتم. قيل: إن الله تعالى قضى مثلاً أن قوم نوح إن آمنوا عمرهم ألف سنة وإن لم يؤمنوا أهلكهم على رأس تسعمائة، فقيل لهم: آمنوا يؤخركم إلى أجل مسمى أي تبلغوا ألف سنة، ثم أخبر أن الأجل إذا جاء لا يؤخر كما يؤخر هذا الوقت. وقيل: إنهم كانوا يخافون على أنفسهم الإهلاك من قومهم بإيمانهم وإجابتهم لنوح عليه السلام، فكأنه عليه السلام أمّنهم من ذلك ووعدهم أنهم بإيمانهم يبقون إلى الأجل الذي ضرب لهم لو لم يؤمنوا أي أنكم إن أسلمتم بقيتم إلى أجل مسمى آمنين من عدوكم.
{قَالَ رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً} دائباً بلا فتور {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآءِى إِلاَّ فِرَاراً} عن طاعتك، ونسب ذلك إلى دعائه لحصوله عنده وإن لم يكن الدعاء سبباً للفرار في الحقيقة وهو كقوله: {وَأَمَّا الذين في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125]. والقرآن لا يكون سبباً لزيادة الرجس وكان الرجل يذهب بابنه إلى نوح عليه السلام فيقول: احذر هذا فلا يغرنك فإن أبي قد وصاني به {وَإِنّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ} إلى الإيمان بك {لِتَغْفِرَ لَهُمْ} أي ليؤمنوا فتغفر لهم فاكتفى بذكر المسبب {جَعَلُواْ أصابعهم في * ءاذَانِهِمْ} سدوا مسامعهم لئلا يسمعوا كلامي {واستغشوا ثِيَابَهُمْ} وتغطوا بثيابهم لئلا يبصرون كراهة النظر إلى وجه من ينصحهم في دين الله {وَأَصَرُّواْ} وأقاموا على كفرهم {واستكبروا استكبارا} وتعظموا عن إجابتي، وذكر المصدر دليل على فرط استكبارهم.
{ثُمَّ إِنّى دَعَوْتُهُمْ جهارا} مصدر في موضع الحال أي مجاهراً، أو مصدر دعوتهم ك (قعد القرفصاء) لأن الجهار أحد نوعي الدعاء يعني أظهرت لهم الدعوة في المحافل {ثُمَّ إِنّى أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} أي خلطت دعاءهم بالعلانية بدعاء السر، فالحاصل أنه دعاهم ليلاً ونهاراً في السر، ثم دعاهم جهاراً، ثم دعاهم في السر والعلن، وهكذا يفعل الآمر بالمعروف يبتدئ بالأهون ثم بالأشد فالأشد، فافتتح بالمناصحة في السر فلما لم يقبلوا ثنّى بالمجاهرة، فلما لم تؤثر ثلّث بالجمع بين الإسرار والإعلان. و(ثُم) تدل على تباعد الأحوال لأن الجهار أغلظ من الإسرار، والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما.
{فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ} من الشرك لأن الاستغفار طلب المغفرة، فإن كان المستغفر كافراً فهو من الكفر، وإن كان عاصياً مؤمناً فهو من الذنوب {إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} لم يزل غفاراً لذنوب من ينيب إليه {يُرْسِلِ السماء} المطر {عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً} كثيرة الدرور ومفعال يستوي فيه المذكر والمؤنث {وَيُمْدِدْكُمْ بأموال وَبَنِينَ} يزدكم أموالاً وبنين {وَيَجْعَل لَّكُمْ جنات} بساتين {وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} جارية لمزارعكم وبساتينكم، وكانوا يحبون الأموال والأولاد فحرّكوا بهذا على الإيمان. وقيل: لما كذبوه بعد طول تكرير الدعوة حبس الله عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة أو سبعين، فوعدهم أنهم إن آمنوا رزقهم الله الخصب ورفع عنهم ما كانوا فيه. وعن عمر رضي الله عنه أنه خرج يستسقي فما زاد على الاستغفار فقيل له: ما رأيناك استسقيت! فقال: لقد استسقيت بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر. شبه عمر الاستغفار بالأنواء الصادقة التي لا تخطئ وقرأ الآيات. وعن الحسن أن رجلاً شكا إليه الجدب فقال: استغفر الله. وشكا إليه آخر الفقر، وآخر قلة النسل، وآخر قلة ريع أرضه، فأمرهم كلهم بالاستغفار. فقال له الربيع بن صبيح: أتاك رجال يشكون أبواباً فأمرتهم كلهم بالاستغفار فتلا الآيات.
{مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} لا تخافون لله عظمة. عن الأخفش قال: والرجاء هنا الخوف لأن مع الرجاء طرفاً من الخوف ومن اليأس والوقار العظمة، أو لا تأملون له توقيراً أي تعظيماً. والمعنى ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} في موضع الحال أي ما لكم لا تؤمنون بالله والحال هذه، وهي حال موجبة للإيمان به لأنه خلقكم أطواراً أي تارات وكرّاتٍ خلقكم أولاً نطفاً ثم خلقكم علقاً ثم خلقكم مضغاً ثم خلقكم عظاماً ولحماً، نبههم أولاً على النظر في أنفسكم لأنها أقرب، ثم على النظر في العالم وما سوّى فيه من العجائب الدالة على الصانع بقوله {أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سماوات طِبَاقاً} بعضاً على بعض {وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً} أي في السماوات وهو في السماء الدنيا، لأن بين السماوات ملابسة من حيث إنها طباق وجاز أن يقال فيهن كذا وإن لم يكن في جميعهن كما يقال: في المدينة كذا وهو في بعض نواحيها.
وعن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم. أن الشمس والقمر وجوههما مما يلي السماوات، وظهورهما مما يلي الأرض، فيكون نور القمر محيطاً بجميع السماوات لأنها لطيفة لا تحجب نوره {وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً} مصباحاً يبصر أهل الدنيا في ضوئها كما يبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى إبصاره، وضوء الشمس أقوى من نور القمر، وأجمعوا على أن الشمس في السماء الرابعة {والله أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض} أنشأكم استعير الإنبات للإنشاء {نَبَاتاً} فنبتم نباتاً {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا} بعد الموت {وَيُخْرِجُكُمْ} يوم القيامة {إِخْرَاجاً} أكده بالمصدر أي أيّ إخراج {والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً} مبسوطة {لّتَسْلُكُواْ مِنْهَا} لتتقلبوا عليها كما يتقلب الرجل على بساطه {سُبُلاً} طرقاً {فِجَاجاً} واسعة أو مختلفة.
{قَالَ نُوحٌ رَّبّ إِنَّهُمْ عصونى} فيما أمرتهم به من الإيمان والاستغفار {واتبعوا} أي السفلة والفقراء {مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ} أي الرؤساء وأصحاب الأموال والأولاد {وَوُلْده} مكي وعراقي غير عاصم وهو جمع ولد كأسد وأسد {إَلاَّ خَسَارًا} في الآخرة.
{وَمَكَرُواْ} معطوف على {لَّمْ يَزِدْهُ} وجمع الضمير وهو راجع إلى (من) لأنه في معنى الجمع. والماكرون هم الرؤساء، ومكرهم احتيالهم في الدنيا وكيدهم لنوح وتحريش الناس على أذاه وصدهم عن الميل إليه {مَكْراً كُبَّاراً} عظيماً وهو أكبر من الكبار وقرئ به وهو أكبر من الكبير {وَقَالُواْ} أي الرؤساء لسفلتهم {لاَ تَذَرُنَّ ءالِهَتَكُمْ} على العموم أي عبادتها {وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً} بفتح الواو وضمها وهو قراءة نافع، لغتان: صنم على صورة رجل {وَلاَ سُوَاعاً} هو على صورة امرأة {وَلاَ يَغُوثَ} هو على صورة أسد {وَيَعُوقَ} هو على صورة فرس وهما لا ينصرفان للتعريف ووزن الفعل إن كانا عربيين، وللتعريف والعجمة إن كانا أعجميين {وَنَسْراً} هو على صورة نسر أي هذه الأصنام الخمسة على الخصوص، وكأنها كانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم فخصوها بعد العموم، وقد انتقلت هذه الأصنام عن قوم نوح إلى العرب؛ فكان ود لكلب، وسواع لهمدان، ويغوث لمذحج، ويعوق لمراد، ونسر لحمير. وقيل: هي أسماء رجال صالحين كان الناس يقتدون بهم بين آدم ونوح، فلما ماتوا صوروهم ليكون ذلك أدعى لهم إلى العبادة، فلما طال الزمان قال لهم إبليس: إنهم كانوا يعبدونهم فعبدوهم {وَقَدْ أَضَلُّواْ} أي الأصنام كقوله: {إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ} [ابراهيم: 36] {كَثِيراً} من الناس أو الرؤساء {وَلاَ تَزِدِ الظالمين} عطف على {رَّبّ إِنَّهُمْ عصونى} على حكاية كلام نوح عليه السلام بعد {قَالَ} وبعد الواو النائبة عنه، ومعناه قال رب إنهم عصوني وقال لا تزد الظالمين أي قال هذين القولين وهما في محل النصب لأنهما مفعولاً {قَالَ} {إِلاَّ ضَلاَلاً} هلاكاً كقوله {وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً} {مّمَّا خطيئاتهم} {خطاياهم} أبو عمرو أي ذنوبهم {أُغْرِقُواْ} بالطوفان {فَأُدْخِلُواْ نَاراً} عظيمة وتقديم {مّمَّا خطيئاتهم} لبيان أن لم يكن إغراقهم بالطوفان وإدخالهم في النيران إلا من أجل خطيئاتهم. وأكد هذا المعنى بزيادة (ما) وكفى بها مزجرة لمرتكب الخطايا، فإن كفر قوم نوح كان واحدة من خطيئاتهم، وإن كانت كبراهن والفاء في {فادخلوا} للإيذان بأنهم عذبوا بالإحراق عقيب الإغراق فيكون دليلاً على إثبات عذاب القبر {فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مّن دُونِ الله أَنصَاراً} ينصرونهم ويمنعونهم من عذاب الله.
{وَقَالَ نُوحٌ رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} أي أحداً يدور في الأرض وهو فيعال من الدور وهو من الأسماء المستعملة في النفي العام {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ} ولا تهلكهم {يُضِلُّواْ عِبَادَكَ} يدعوهم إلى الضلال {وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} إلا من إذا بلغ فجر وكفر وإنما قال ذلك لأن الله تعالى أخبره بقوله: {لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءامَنَ} [هود: 36] {رَّبّ اغفر لِى ولوالدى} وكانا مسلمين واسم أبيه لمك، واسم أمه شمخاء، وقيل: هما آدم وحواء وقرئ {ولولَدَيَّ} يريد ساماً وحاماً {وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ} منزلي أو مسجدي أو سفينتي {مُؤْمِناً} لأنه علم أن من دخل بيته مؤمناً لا يعود إلى الكفر {وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات} إلى يوم القيامة. خص أولاً من يتصل به لأنهم أولى وأحق بدعائه، ثم عم المؤمنين والمؤمنات {وَلاَ تَزِدِ الظالمين} أي الكافرين {إِلاَّ تَبَاراً} هلاكاً فأهلكوا. قال ابن عباس رضي الله عنهما: دعا نوح عليه السلام بدعوتين: إحداهما للمؤمنين بالمغفرة، وأخرى على الكافرين بالتبار، وقد أجيبت دعوته في حق الكفار بالتبار فاستحال أن لا تستجاب دعوته في حق المؤمنين. واختلف في صبيانهم حين أغرقوا فقيل: أعقم الله أرحام نسائهم قبل الطوفان بأربعين سنة فلم يكن معهم صبي حين أغرقوا. وقيل: علم الله براءتهم فأهلكوا بغير عذاب والله أعلم.

.سورة الجن:

.تفسير الآيات (1- 9):

{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)}
{قُلْ} يا محمد لأمتك {أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ} أن الأمر والشأن. أجمعوا على فتح {أَنَّهُ} لأنه فاعل {أوحى} و{أَن لَّوْ استقاموا} و{أَن المساجد} للعطف على {أَنَّهُ استمع} ف (أن) مخفقة من الثقيلة و{أَن قَدْ أَبْلَغُواْ} لتعدي {يَعْلَمْ} إليها، وعلى كسر ما بعد فاء الجزاء وبعد القول نحو {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} {وَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا} لأنه مبتدأ محكي بعد القول، واختلفوا في فتح الهمزة وكسرها من {أَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبّنَا} إلى {وَأَنَّا مِنَّا المسلمون} ففتحها شامي وكوفي غير أبي بكر عطفاً على {أَنَّهُ استمع} أو على محل الجار والمجرور في {آمَنا بِهِ} تقديره: صدقناه وصدقنا {أَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبّنَا} {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} إلى آخرها، وكسرها غيرهم عطفاً على {إِنَّا سَمِعْنَا} وهم يقفون على آخر الآيات {استمع نَفَرٌ} جماعة من الثلاثة إلى العشرة {مّن الجن} جن نصيبين {فَقَالُواْ} لقومهم حين رجعوا إليهم من استماع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانَاً عَجَباً} عجيباً بديعاً مبايناً لسائر الكتب في حسن نظمه وصحة معانيه. والعجب ما يكون خارجاً عن العادة، وهو مصدر وضع موضع العجيب {يَهْدِى إِلَى الرشد} يدعوا إلى الصواب أو إلى التوحيد والإيمان {فَآمَنا بِهِ} بالقرآن. ولما كان الإيمان به إيماناً بالله وبوحدانيته وبراءة من الشرك قالوا {وَلَن نُّشرِكَ بِرَبّنَا أَحَداً} من خلقه، وجاز أن يكون الضمير في {بِهِ} لله تعالى لأن قوله {بِرَبّنَا} يفسره.
{وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبّنَا} عظمته. يقال: جد فلان في عيني أي عظم، ومنه قول عمر أو أنس: كان الرجل إذ قرأ البقرة وآل عمران جد فينا أي عظم في عيوننا {مَا اتخذ صاحبة} زوجة {وَلاَ وَلَداً} كما يقول كفار الجن والإنس {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} جاهلنا أو إبليس إذ ليس فوقه سفيه {عَلَى الله شَطَطاً} كفراً لبعده عن الصواب من شطت الدار أي بعدت، أو قولاً يجوز فيه عن الحق وهو نسبة الصاحبة والولد إليه، والشطط مجاوزة الحد في الظلم وغيره {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الإنس والجن عَلَى الله كَذِباً} قولاً كذباً، أو مكذوباً فيه، أو نصب على المصدر إذ الكذب نوع من القول أي كان في ظننا أن أحداً لن يكذب على الله بنسبة الصاحبة والولد إليه فكنا نصدقهم فيما أضافوا إليه حتى تبين لنا بالقرآن كذبهم؛ كان الرجل من العرب إذا نزل بمخوف من الأرض قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه يريد كبير الجن فقال: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الجن فَزَادوهُمْ} أي زاد الإنس الجن باستعاذتهم بهم {رَهَقاً} طغياناً وسفهاً وكبراً بأن قالوا: سدنا الجن الإنس أو فزاد الجن الإنس رهقاً إثماً لاستعاذتهم بهم، وأصل الرهق غشيان المحظور {وَأَنَّهُمْ} وأن الجن {ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ} يا أهل مكة {أَن لَّن يَبْعَثَ الله أَحَداً} بعد الموت أي أن الجن كانوا ينكرون البعث كإنكاركم، ثم بسماع القرآن اهتدوا وأقروا بالبعث فهلا أقررتم كما أقروا.
{وَأَنَّا لَمَسْنَا السمآء} طلبنا بلوغ السماء واستماع أهلها، واللمس. المس فاستعير للطلب لأن الماس طالب متعرف {فوجدناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً} جمعاً أقوياء من الملائكة يحرسون: جمع حارس، ونصب على التمييز. وقيل: الحرس اسم مفرد في معنى الحراس كالخدم في معنى الخدام ولذا وصف بشديد ولو نظر إلى معناه لقيل شداداً {وَشُهُباً} جمع شهاب أي كواكب مضيئة.
{وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا} من السماء قبل هذا {مقاعد لِلسَّمْعِ} لاستماع أخبار السماء يعني كنا نجد بعض السماء خالية من الحرس والشهب قبل المبعث {فَمَن يَسْتَمِعِ} يرد الاستماع {الآن} بعد المبعث {يَجِدْ لَهُ} لنفسه {شِهَاباً رَّصَداً} صفة ل {شِهَاباً} بمعنى الراصد أي يجد شهاباً راصداً له ولأجله، أو هو اسم جمع للراصد على معنى ذوي شهاب راصدين بالرجم، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشهب ويمنعونهم من الاستماع، والجمهور على أن ذلك لم يكن قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: كان الرجم في الجاهلية ولكن الشياطين كانت تسترق السمع في بعض الأوقات فمنعوا من الاستراق أصلاً بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم.